كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن}..
فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة، أو الهاتفة المثيرة، تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال. ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب، يلبي داعي الفطرة في جو نظيف، لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة!
{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}..
والزينة حلال للمرأة، تلبية لفطرتها. فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة، وأن تبدو جميلة. والزينة تختلف من عصر إلى عصر؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله، وتجليته للرجال.
والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية؛ ولكنه ينظمها ويضبطها، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد هو شريك الحياة يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه. ويشترك معه في الاطلاع على بعضها، المحارم والمذكورون في الآية بعد، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع.
فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين، فيجوز كشفه. لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه».
{وليضربن بخمرهن على جيوبهن}..
والجيب فتحة الصدر في الثوب. والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر. ليداري مفاتنهن، فلا يعرضها للعيون الجائعة؛ ولا حتى لنظرة الفجاءة، التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها، ولكنها قد تترك كميناً في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة!
إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء!
والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي. وقلوبهن مشرقة بنور الله، لم يتلكأن في الطاعة، على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال. وقد كانت المرأة في الجاهلية كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة! تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء. وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقرطة أذنيها. فلما أمر الله النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، كن كما قالت عائشة رضي الله عنها: «يرحم الله نساء المهاجرات الأول. لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} شققن مروطهن فاختمرن بها».. وعن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة. قالت: فذكرن نساء قريش وفضلهن.
فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء قريش لفضلاً. وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل. لما نزلت في سورة النور: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها؛ ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته. فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل، فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه. فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان.
لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي، وطهر إحساسه بالجمال؛ فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب، بل الطابع الإنساني المهذب.. وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان؛ مهما يكن من التناسق والاكتمال. فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف، الذي يرفع الذوق الجمالي، ويجعله لائقاً بالإنسان، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال.
وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات. على الرغم من هبوط الذوق العام، وغلبة الطابع الحيواني عليه؛ والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات، في مجتمع يتكشف ويتبرج، وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان!
هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة.. ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة. فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم:
الآباء، والأبناء، وآباء الأزواج وأبناؤهم، والإخوة وأبناء الإخوة، وأبناء الأخوات.. كما يستثني النساء المؤمنات: {أو نسائهن} فأما غير المسلمات فلا. لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن، وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها. وفي الصحيحين: لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها. أما المسلمات فهن أمينات، يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن امرأة مسلمة وزينتها.. ويستثني كذلك {ما ملكت أيمانهن} قيل من الإناث فقط، وقيل: ومن الذكور كذلك. لأن الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته. والأول أولى، لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة الإنسان، مهما يكن له من وضع خاص؛ في فترة من الزمان.. ويستثني {التابعين غير أولي الإربة من الرجال}.. وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة والجنون. وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة. لأنه لا فتنة هنا ولا إغراء... ويستثني {الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء}.. وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس. فإذا ميزوا، وثار فيهم هذا الشعور ولو كانوا دون البلوغ فهم غير داخلين في هذا الاستثناء.
وهؤلاء كلهم عدا الأزواج ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها، إلا ما تحت السرة إلى تحت الركبة.
لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء. فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء.
ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء، فقد مضت الآية تنهى المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة، وتهيج الشهوات الكامنة، وتوقظ المشاعر النائمة. ولو لم يكشفن فعلاً عن الزينة:
{ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن}..
وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها. فإن الخيال ليكون أحياناً أقوى في إثارة الشهوات من العيان. وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها، أو حليها، أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته. كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم، أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى العطر من بعيد، قد يثير حواس رجال كثيرين، ويهيج أعصابهم، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها رداً. والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله. لأن منزله هو الذي خلق، وهو الذي يعلم من خلق. وهو اللطيف الخبير.
وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى الله؛ ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}.
بذلك يثير الحساسية برقابة الله، وعطفه ورعايته، وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق، الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله، وبتقواه..
وإلى هنا كان علاج المسألة علاجاً نفسياً وقائياً. ولكن ذلك الميل حقيقة واقعة، لابد من مواجهتها بحلول واقعية إيجابية.. هذه الحلول الواقعة هي تيسير الزواج، والمعاونة عليه؛ مع تصعيب السبل الأخرى للمباشرة الجنسية أو إغلاقها نهائياً: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم}.. إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية. وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة. فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج، لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها. والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت، وتحصين النفوس. والإسلام نظام متكامل، فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء. فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامداً غير مضطر.
لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}..
والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين.. والمقصود هنا الأحرار، وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك: {والصالحين من عبادكم وإمائكم}.
وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}..
وهذا أمر للجماعة بتزويجهم. والجمهور على أن الأمر هنا للندب. ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزوجوا. ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم. ونحن نرى أن الأمر للوجوب، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج؛ ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة. وهو واجب. ووسيلة الواجب واجبة.
وينبغي أن نضع في حسابنا مع هذا أن الإسلام بوصفه نظاماً متكاملاً يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجاً أساسياً؛ فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب، وتحصيل الرزق، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال. ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات.. فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله. وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقاً على الدولة واجباً للأفراد. أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام.
فإذا وجد في المجتمع الإسلامي بعد ذلك أيامى فقراء وفقيرات، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج، فعلى الجماعة أن تزوجهم. وكذلك العبيد والإماء. غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين.
ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقاً عن التزويج متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالاً ونساء فالرزق بيد الله. وقد تكفل الله بإغنائهم، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف».
وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله}.. {والله واسع عليم}.. لا يضيق على من يبتغي العفة، وهو يعلم نيته وصلاحه.
وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج؛ ولو كان عاجزاً من ناحية المال. والمال هو العقبة الكؤود غالباً في طريق الإحصان.
ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي، وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية.
وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين. لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة. حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته. وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته:
{والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً}..
وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب. ونحن نراه الأولى؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية. ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له، وأجر عمله له، ليوفي منه ما كاتب عليه؛ ويجب له نصيب في الزكاة: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}. ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيراً. والخير هو الإسلام أولاً. ثم هو القدرة على الكسب. فلا يتركه كَلاً على الناس بعد تحرره. وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش، ويكسب ما يقيم أوده. والإسلام نظام تكافل. وهو كذلك نظام واقع. فليس المهم أن يقال: إن الرقيق قد تحرر. وليست العنوانات هي التي تهمه. إنما تهمه الحقيقة الواقعة. ولن يتحرر الرقيق حقاً إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه؛ فلم يكن كلا على الناس؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد؛ بما هو أشد وأنكى.
وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة، احتراف بعض الرقيق للبغاء. وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة؛ وخص هذه الحالة بنص خاص:
{ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم}.
فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث. ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة، بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه.
قال السدي: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول، رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة. وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها، إرادة الثواب منه، والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه ذلك؛ فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها. فصاح عبد الله بن أبي: من يعذرنا من محمد؟ يغلبنا على مملوكتنا! فأنزل الله فيهم هذا.